الحلقة 5: العراق: جلجامش و طوفان العراق العظيم ج2‎

مرحبا واهلا بكم في الحلقة الخامسة من أساطير بودكاست, انا عادل.
واليوم سوف نكمل اسطورة جلجامش التي بدأناها في الحلقة الرابعة. جلجامش وطوفان العراق العظيم.

انهينا الجزء الأول من الأسطورة بموت إنكيدو صديق البطل جلجامش المرسل من السماء وبعدها بدأ جلجامش رحلته الاسطورية ل لقاء أوتو نبشتم الابدي, وتركناه في جبل ما شو بعدما أرشده البشر العقارب على الطريق الصحيح.

بداء جلجامش رحلته في طريق صعب ومظلم لا يرى فيه اي شيء امامه او خلفه. بعد ساعات طويلة من المشي امتلئ المكان بالنور و تألقت الشمس امام جلجامش. تابع المشي وبعد دقائق وجد نفسه امام اشجار مثمرة, لا بفواكه او ثمار انما بأحجار كريمة. فرأى شجر من عقيق واشجار من لازورد و أعشاب من لؤلؤ و تعجب كثيرا, وتابع المشي الى ان وصل الي شاطئ البحر وعلى الشاطئ كان هناك حانة تقطنها سيدة تدعى سيدوري. هرعت سيدوري الى الحانة واوصدت الباب بعد رؤية جلجامش اشعث اغبر بملابس جلدية مقطعة, عليه علامات السفر والتعب. ملئ جلجامش الغضب حين رأى سيدوري توصد الباب وهددها بهدمه, ثم عرف عن نفسه وسرد  بطولاته مع خمبابا و الثور السماوي, فردت سيدوري: “اذا كنت حقا جلجامش البطل فلما عليك اثار التعب والشقاء والحزن”.

صمت جلجامش ورد بهدوء مخبراً سيدوري عن إنكيدوا صديقه الوفي وخليله واخبرها ايضا انه هنا ليسأل الالهة عن الموت. ردت عليه ناصحة: “يا جلجامش الى ماذا تسعى؟ لقد تفردت الالهة بالحياة وخلقت الموت للبشر. اذهب من هنا كُل واشرب وارقص و اغتسل”. لم يعبرها جلجامش ورد سائلا: “اين الطريق الى أوتو نبشتم؟” حاولت التثبيط من همته لكن لا جدوى. في حوارهما قالت: “لم يعبر البحر احدا  قط الا شمش القدير او بمساعدة اورشنابي قائد مركبة  أوتو نبشتم”. زاد هذا من غضبه ودخل الغابة القريبة و استل فأسه وحطم اول ما رأى و هو صور الحجر. صور الحجر هو قارب سحري لم يعلم جلجامش حينها ما هو.

في لحظتها ظهر رجل و صاح ب جلجامش: “من انت؟” ثم عرف عن نفسه وقال انا اورشنابي. فرح جلجامش وعرف عن نفسه وعن مقصده, فرد اورشنابي معلقاً و مستغربا من شكل جلجامش وقد كساه التعب والحزن فأخبره جلجامش عن خليله إنكيدوا وعاد حوار سيدوري من اوله.

 في النص الاصلي العديد من المقاطع معادة كما هي بدون اي تغيير وما ذلك الا لإثبات الرسالة في عقل القارئ والتأكيد على ضخامة الموضوع للشخصية.

اختتم جلجامش كلامه سائلا عن الطريق ل  أوتو نبشتم. نظر اورشنابي الى جلجامش وقال: “يداك منعتاك من عبور البحر لإنك اتلفت حجر الصور”. ملئ الحزن قلبه وبدء امله برؤية أوتو نبشتم بالتلاشي حتى ان سمع اورشنابي يقول: “خذ فأسك واذهب الى الغابة واقطع ١٢٠ شجرة طول كل منها ٦٠ ذراعا ثم عد لي”. انطلق جلجامش نحو منحدر الغابة حيث الأشجار الطويلة وعاد الى اورشنابي بما طلب.

صنع اورشنابي القارب ثم اصطحب جلجامش الى أوتو نبشتم. قطع الشابان ٣ ايام في البحر اي ما يعادل شهر ونصف من ترحال البشر العاديين حتى بلغوا مياه الموت. قبل دخول  مياه الموت حذر اورشنابي جلجامش من مس المياه. كانت الرحلة شاقة لم يستطيع اورشنابي ان يتابع بدون ان يعاتب جلجامش على ما فعل بصور الحجر  حيث انه كان الوسيلة المثالية لعبور هذه المياه. وصل جلجامش الى منزل  أوتو نبشتم وما أن رآه الا و سأله عن حاله وشكله والحزن الواضح على وجهه. سرد جلجامش الى أوتو نبشتم قصته فرد عليه قائلا: “ان الموت لا يرحم فلا بيت يدوم ولا عقد يدوم ولا ميراث يدوم ولا البغضاء تدوم ولا الفيضان يدوم, وما ان تخرج الفراشة من شرنقتها الا وان يحل اجلها, وما اعظم الشبه بين الموت والنوم”. استرسل  أوتو نبشتم بالكلام وذكر جلجامش بالانوناكي ومامتوم صانعة الاقدار. الانوناكي هو مجمع الالهة في الحضارة الكنعانية.

رد جلجامش عليه وسأله عن سر خلوده, حيث انه على هيئة بشري ولا يختلف عن الشخص العادي بأي شيء, ثم اكمل كلامه مستغرباً وقال: “كيف دخلت مجمع الآلهة وانت لست ببطل؟ اني اراك مضطجع على ظهرك”. هنا نرى ان جلجامش يقارن  أوتو نبشتم بنفسه شخصيا حيث انه بطل مقدام صاحب جسد قوي وكبير و أوتو نبشتم ما هو إلا رجل عادي.

أوتو نبشتم رجل حكيم وحليم واراد ان يلقن جلجامش درسا فقال له: “سأطلعك على سر من أسرار الالهة. يوجد مدينة على ضفاف الفرات تدعى شورباك. كانت هذه المدينة مسكن الالهة وارادوا ان يحدثوا فيها طوفانا عظيما، فاجتمع انو الاب وانليل البطل و ننورت الوزير و انوكي الحاجب وكانت معهم آية. جاءت آية الى كوخي واخبرتني بمخطط الالهة وأمرتني ان ابني سفينة كبيرة احمل فيها من كل بذور الأرض” و تابع قائلا: “اقمت هيكل السفينة وبنيتها كما امرت آية. حشيتها وغرزت فيها اوتاد الماء وجهزتها بالمؤن ثم ذبحت البقر واطعمت الناس ثم ملئت السفينة بكل ما املك وانزلنا السفينة الى الماء و كان امرا شاقا, عندها بدئت السماء بالتغيير فأركبت اهلي و جميع جيراني و حيوان الحقل والبراري ودخلنا السفينة واغلقنا الباب ثم جاء المطر المهلك” وهنا بدء بوصف العاصفة فقال: “ظهرت غمامة سوداء في داخلها ادد و كان امامه شلات وخانيش ومعهم ايراكال ويتبعهم ننورتا. كان ننورتا يفتح السدود. ثم بلغت رعود ادد عناء السماء وحل الظلام. فتحت الارض كالجرة المكسورة حتى بلغت المياه قمم الجبال وهبت الريح وفتكت بالناس كالحرب حتى الالهة خافت وعرجت الى سماء انو. ندم بعضهم وبكوا وندبوا على ما فعلوا بعد ان رآو الدمار الذي استمر ستة ايام وسبع ليالي. في اليوم السابع خفت الرياح وعم السكون فركعت وصليت وبكيت ثم علقت السفينة في جبل نصير واستقرت لستة أيام. اخرجت حمامة واطلقتها ثم عادت ثم اخرجت السنونو واطلقته فعاد لأنه لم يجد اية ارض ل يحط عليها ثم اطلقت الغراب فلم يعد فسكبت الماء المقدس على قمة رقورا وقدمت القرابين. عندها حضرت الآلهة وتقدمت عشتار وقالت: “كما انني لا انسى عقد اللازورد اني لم انسى هذه الأيام فلتتقدم الآلهة ما عدا انليل صاحب الطوفان” عندها جاء انليل وكان غاضبا بعد ان رأى السفينة, شعر ان احدا من الآلهة قد خانه واخبر البشر بالطوفان وعرف انها آية. تقدمت آية وقالت: “حمل صاحب الخطيئة وزر خطيئته ولكن كن رحيما, لو انك اطلقت السباع بدل الطوفان او الذباب او القحط او الطاعون. اما انا فلم افشي السر ولكن ارسلت الرؤية”. عندها قام انليل واخذني وزوجتي واعلن اننا من اليوم لم نعد بشر واخذونا لنسكن عندهم عند فم النهار.”

التفت أوتو نبشتم الى جلجامش وأكمل قائلا: “من سيجمع الآلهة لأجلك اذا اردت سر الخلود لا تنم ل ستة ايام وسبع ليال” ولكن جلجامش كان ضعيفا ومنهكا من السفر فنام على الفور. خبزت زوجة  أوتو نبشتم رغيفا من الخبز و وضعته بجانب جلجامش صباح كل يوم لم يستيقظ به, هي ارادت ان توقظه بعد اليوم الاول لكنها لم تفعل لكي لا توصف بالخداع كبقية البشر. بدء الرغيف الاول باليباس وتلف الرغيف الثاني وابيض الثالث ام الرابع ما زال رطبا والخامس مازال طريا والسادس طازجا والسابع على الجمر حين استيقظ جلجامش بعد ان ايقظه  أوتو نبشتم, ثم قال له: “يا بني عد ارغفتك وانظر الى حالها.” عندما فهم ما جرى حزن جلجامش والتفت الى اوتونبشتم سائلا: “ماذا الان الى اين اذهب وحيث ما ذهبت حل الموت.” لم يعطه أوتو نبشتم جواب بل التفت الى الملاح اورشنابي وامره ان يأخذ جلجامش الى الشاطئ ليغسل جسده وملابسه الوسخة حتى يصبح نظيفا كالثلج. الشاطئ المذكور هو شاطئ مميز حيث ان  أوتو نبشتم كان قد اغتسل فيه سابقا.

يوجد دلالات على هذا النص ففي اسطورة الإسكندر الكبير ذكر الغسل من نبع الحياة كأداة مستخدمة للحصول على الشباب الابدي ويعتقد بعض الباحثين ان  أوتو نبشتم اراد جلجامش ان يحصل على الشباب الدائم حين طلب منه ان يغتسل ويجدد ملابسه.

 قبل ان يذهب جلجامش الى الشاطئ ثم يعود الى اوروك شعر  أوتو نبشتم بالشفقة تجاه وقال له انه سيطلعه على سر, قال: “يوجد نبات مثل الشوك ينبت في الماء شوكه يخز اليدين كالورد اذا حصلت عليه ستحصل على الشباب الدائم.” وعند وصوله الى الشاطئ نزل جلجامش الى المياه وربط اشجار ثقيلة بقدميه ونزل الى القاع واحضر النبات المذكور ولكنه لم يستخدمه فكما قال  أوتو نبشتم ان هذا النبات السحري لا يؤكل الا عند الشيخوخة فحفظه جلجامش وأراد أن يأخذ الى اوروك ليشارك به الشعب, ثم خلع ثيابه ونزل ليغتسل وبينما كان هو بالماء جاء ثعبان وأخذ الثمرة المشوكة وفي طريقها الى الماء خلعت جلدها وتركته على الشاطئ. حين لاحظ جلجامش ما حصل جلس وبكى حتى تبللت وجنتاه ثم التفت الى أورشنابي وقال: “لقد اخذ اسد التراب مغنمي.” وأسد التراب هو اسم من اسامي الأفاعي عند العراقيين القدماء. ثم عاد إلى أوروك وهو حزين وبدون همة, تمشى على اسوار اوروك ورأى الناس و دخل المعابد وقضى وقت في بساتين النخيل و زار الحكماء وتفكر كثيرا فيما حدث. في نهاية المطاف اكتشف جلجامش ان الحياة التي تسعى في أثرها لن تنالها ابدا وعملك في هذه الحياة هو ما لم يمحيه موتك. في نهاية الملحمة تاخا جلجامش مع حقيقة أنه مهما طال بقائه فهو محدود ومهما عظم جاهه لم يغلب الموت. الفناءُ قدرٌ والعظمة مؤقتة.

إلى هُنا انتهت الاسطورة والجدير بالذكر ان قصة جلجامش من وحي الخيال لكن مؤخراً اكتشف ان جلجامش وجد بالفعل وكان حاكماً لأوروك أو وركاء بالعربية وهي مدينة جنوب العراق. هنالك الكثير من العبر في ذلك القصة أولها عن أهمية الصداقة في حياة الإنسان فبِمقارنة مفهوم الصداقة الحالي ومفهوم الصداقة قبل أربع آلاف عام نرى أنها تقريباً كما هي, وهذه القصة أيضاً تناقش قضية الحياة الابدية كما الكثير من القصص والأساطير من اغلب شعوب العالم. الثمرة المشوكة هُنا كانت المفتاح وفي غير ثقافات كانت إكسير الحياة أو نبع الشباب هو المانح للحياة الأبدية, لكن الشيء المختلف هُنا هو عدم حصول جلجامش على مراده إنما تعلم أن يقدر حياته كما هي مثلما طلبت منه صاحبه الحانة سيدوري, وهذه فرصة لأذكر أن صاحبه الحانة سيدوري هي آلهة الحكمة وشراب الشعير. مفهوم جلجامش عن نفسه تغير جذرياً, فبدلاً أن يركز على جزء الآلهة منه ركز على الجزء البشرّي, وأدرك مدى ضعفه.

 لهذه الاسطورة في العالم العربي شعبية واسعة جدا, فجولةٌ على مواقع التواصل الاجتماعي تُرينا عدداً من الأشخاص متكنين بأسماء من الأسطورة, لكن الاغلبية لإنكيدو. محمود درويش في جِداريته استعان بإنكيدو بمقطع هائل فقال:

سائرون علي خطى جلجامش الخضراءِ من زمني إلي زمني

هباء كامل التكوينِ “

يكسرني الغياب كجرٌةِ الماءِ الصغيرة .

نام إنكيدو ولم ينهض. جناحي نام

ملْتفٌا بحفْنةِ ريشِهِ الطينيٌِ. آلهتي

جماد الريح في أرض الخيال. ذِراعِي

اليمْني عصا خشبيٌة. والقلْب مهجور

كبئري جفٌ فيها الماء، فاتٌسع الصدى

الوحشيٌ: إنكيدو ! خيالي لم يعدْ

يكفي لأكمل رحلتي . لا بدٌ لي من

قوٌة ليكون حلْمي واقعيٌا

 هذه الفقرات هي جزء بسيط من المقاطع التي استعان بها محمود درويش على إنكيدو وجلجامش. انصحكم بقراءة الجدارية كاملة او الاستماع لمقطع إنكيدو وجلجامش على SoundCloud

لملحمة جلجامش الرائعة أثرٌ قديم على العالم فبناء على رأي Barry P Powell اللغوي الكلاسيكي فإن Homer استلهم عدة مشاهد من قصة جلجامش لملحمتاه الاوديسية نسبة للبطل اوديسيس والإلياذة او الإليد.

 عالمياً ذاع صيت جلجامش بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن قام الروائي الألماني Hermann Kasack في روايته “المدينة وراء النهر” بالاستعانة ببعض العناصر من الاسطورة خصوصاً من حياة إنكيدو بعد أن اهان عشتار لوصف مدينة Hamburg بعد القصف وكذلك قام Hans Henny Jan باستخدام علاقة جلجامش وإنكيدو لتصوير علاقة البطلان في الجزء الثاني من ثلاثية نهر بلا شواطئ. في الفن المعاصر العديد من برامج الراديو والتلفزيون والكتب والأعمال الفنية استلهمت من هذه الملحمة, في عام ١٩٥٣ قدمت Douglas Jeffrey Brideson مسرحية على الراديو بعنوان The Quest of Gligamesh او مغامرة جلجامش وبعدها انشهرت القصة في المملكة المتحدة. في جامعة سدني في استراليا يقف تمثال طوله حوالي اثنان ونصف المتر ويمثل جلجامش واقفاً وبطرفه الايسر يوجد أسد متعلق على ساعده هذا العمل للنحّات الآشوري لويس باتروس. حتى في الموسيقى الهمت القصة عدد من الملحِنين  فأنتجوا أوبرات ابرزها جاء من تركيا وصربيا وايطاليا, و مؤخراً اطلق الفنان الأميركيSufjan Stephen اغنية بعنوان جلجامش الاغنية رائعة جداً وفيها الكثير من الرثاء والحزن واظنها تصور مشاعر جاجامش تجاه إنكيدو بعد وفاته.

 الآن اود أن احدثكم عن أثر هذه عليّ فعندما انتهيتُ من قرائتها وجدتُ نفسي حزيناً وتائهاً انتهيت من آخر صفحة والدموع في عيناي لأني شعرت بشعور جلجامش الحزين يمشي وحيداً على اسوار اوروك موقناً مدى ضعفه وقلة حيلته. اشتد حزني اكثر عندما تفكرتُ بعلاقة جلجامش وإنكيدو من وجهة نظر انسان في عصرِنا الحالي ف جلجامش لم يعطي نفسه ايّة وقت ليرثي إنكيدو بشكلٍ مناسب إنما تصرف بطيش و انطلق بمغامرةٍ جديدة بعد مواره إنكيدو الثرى فوراً. بإحدى الترجمات ذُكرى أنه لشدة حب جلجامش لإنكيدو تركه مستلقياً على الفراش بعد وفاته إلى أن بدء الدود بأكلة رافضاً مفارقة صديقه. انصحكم بشدة أن تقرأوا الاسطورة بأكملها لتعيشوا دوامة المشاعر التي عشت.

أتمنى أن تكونو قد استفدتم واستمتعتم بحلقة اليوم لا تنسوا مشاركة الحلقة مع اصدقائكم المهتمين بالأساطير وتقييمها على المنصة التي تستخدمو اذا اردتم التواصل معي فبأمكانكم ذلك عن طريق الانستغرام  asateerpod لترك اقتراحاتكم وآرائِكم وهناك ستجدون المزيد من المعلومات واشياء معنية بحلقة اليوم.

                     كان معكم عادل في أساطير بودكاست.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *